إنّ تحول الخطاب المُوجّه من الإنسان إلى الله، إلى خطاب مُوجّه من الله إلى الإنسان هو تأكيد لثنائية الله والإنسان، والإنسان الكامل هو وسيط روحي بين الله والإنسان، وهو الحقيقة المحمدية السارية في جميع الأنبياء والتي تُحققُ تجسّدها الأكمل في شخصية النبي محمد ( هذه الحقيقة التي تُمثِّلُ العلّة الغائية من الوجود (أنتَ جنةُ العارفين، وغاية السالكين،... لولاك ما ظهرت المقامات والمشاهد، ولا وُجِدَ المشهود ولا الشاهد،... عبدي لولاك ما كان سلوك ولا سفر، ولا عينٌ ولا أثر، ولا وصولٌ ولا انصراف...).
ويرثُ العارفون الكمالَ من الأنبياء، ثم يرثه باقي البشر بمراتبهم المختلفة التي قد تقترب أو تبتعد عن الأصل، ويتحقق الكمال بمعرفة الله والفناء فيه، عبر معراج روحي باطني يتخفّى فيه الصوفي عن جسده، فيغتني الباطن كلمّا نقص الظاهر حتى يصل إلى مرحلة الكشف.
إنّ صورة الإنسان الكامل عند ابن عربي، تجمع بين الإنسان الصوفي الذي يسير في طريق الكمال، والإنسان التابع الوارث المحمدي، ويؤكد ابن عربي أنّ هذا الإنسان هو سبب الوجود، من خلال كونه سرّ الطبيعة المادية (أنت سرّ الماء، وسرّ نجوم السماء...، وسر الأنعام...) وكونه سر الطبيعة المعنوية أيضاً (أنت جنّة العارفين، وغاية السالكين، وريحان المُقرَّبين، وسلام أصحاب اليمين، ومراد الطالبين، وأنس المعتزلين المتفردين المنقطعين، وراحة المشتاقين، وأمن الخائفين، وخشية العالمين، وقُرّة عين المحبين، وعصمة اللائذين، ونزهة الناظرين، وريّا المستنشقين، وحمد الحامدين...).
نظرية الإنسان الكامل عند ابن عربي ترقى بالإنسان إلى مرتبة من مرتبة النبوة والألوهية وهذا دليل طموح ديني مفتوح يتجاوز الفروق الدينية والعقائدية بين البشر، ويُقدِّمُ نموذجاً أمثل للإنسان الذي يساهم في حل تناقضات الواقع حلاًّ مثاليّاً مُستقىً من رؤية باطنية روحية.
نقل ابن عربي مفهوم الإنسان الكامل من مستواه المرتبط بالنبي (، وبزمنه إلى المستوى الكوني، فالإنسان مركز الكون، ولأنّ النوع الإنساني متفاضل بأفراده، فالغاية القصوى من الوجود هي الإنسان الكامل، الفرد البشري نواة الإصلاح، والإنسان الكامل ـ عند الصوفيين ـ يقابل المدينة الفاضلة عند الفلاسفة المثاليين، فهو حلم الفلاسفة والصوفيين، ذلك الحلم الأسطوري بخلاص البشرية ممَّا يُكدِّر سعادتها وأمنها وكفايتها، ويتمتع الإنسان الكامل بالفاعلية الاجتماعية والكونية، وبالبطولة، لأنه يتصدّى لمشروع حضاري كبير، محوره كمال الإنسان الفرد، من أجل كمال النوع، ومن أجل كمال الإنسانية (فالإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية والكونية الكليّة والجزئية فنسبة العقل الأول إلى العالم الكبير وحقائِقهِ، هي بعينها نسبة الروح الإنساني إلى البدن وقواه ومرتبة الإنسان الكامل مرتبة مضاهية للمرتبة الإلهية، ولا فرق بينهما إلاَّ بالربوبية، ولذلك صار خليفةً لله تعالى)(4).
جهد ابن عربي لإبراز (الإنسان الكامل) بشراً فاستبدل بأسمائه المعروفة (الحقيقة المحمدية) و(العقل الأول)..، صفات بشرية عادية مثل تحمّل الأمانة، وأداء الحق (حامل أمانتي).. (القائم بقسطاس حقي) وبصفات تكريمية ملؤها الحب والتقدير (أنت سرّ الماء، سرّ نجوم السماء...)، والإنسان الكامل وسيط بين عالم الأرض والسماء، بين الإنسان والله، فهو خليفة الله في الأرض، وصورته تجمع بين الإلهي والإنساني، وهو نبوّة تُبشِّر بالمبادئ والمُثل، والكمال فكرة في خدمة الإنسان لمنحه حريته وسعادته.
بالخيال يُبْدِعُ الصوفيون صورة الإنسان الكامل الذي يمتلك قدراتٍ خارقة تهدف إلى تغيير الواقع ما يُرسِّخُ أدبيّة النص ويؤكد العوالم التي يرسمها ابن عربي بجمل اسمية طاغية. مثل (جنّة العارفين)، (غاية السالكين)، (ريحانة المُقرَّبين)، (تحفة الواصلين)، (عصمة اللائذين)، (نزعة الناظرين)، (بحر الأوصاف)، (درر الأصداف)، (مغرب الأسرار)، (مشرق الأنوار)،الخ... وبذا يُحوّل بالأدب المستحيلَ إلى ممكن، ويخلق طاقة جمالية وفنية تثير الحب، والإعجاب، والخوف، والرهبة.
جسَّد ابن عربي أفكارَه لغويّاً فلم تعد اللغة مجرد أداة للتعبير عن الفكرة، غدت هي الفكرة ذاتها، كما في ظاهرة الإضافة التي أكثر منها في سياق تعريف الإنسان بنفسه، وبمكانة الإنسان الكامل المتحقق في النبي ( وفي التابعين الوارثين، وفي صيغ الإضافة جعل المضاف غالباً مادياً (الماء، النجوم، الأنعام، السالكين،..) وجعل المضاف إليه غالباً معنويّاً (غاية، سرّ، مراد، راحة، أمن...)، فالمادي يُضَافُ إلى المعنوي، لأنّ الكمال عند ابن عربي هو مادة وروح، والانتقال من المعنوي إلى المادي ليس نقصاً بل ازدياداً، والله لم يهب الإنسان العنصر المادي في تكوينه ليكون عاراً عليه، أو نقصاً فيه، بل ليكون كمالاً لـه حين يُوظِّف المادي لخدمة الروحي، وكمال الإنسان يتحقّق بمستويات أربعة يتمتع بها عن سائر الكائنات هي: (مستوى حسي: أن يكون قوي البدي رشيق الحركة، ومستوى عقلي: أن يكون جيد الفهم بليغ الخطاب، ومستوى اجتماعي: حائز على الفضائل كالشجاعة والعدالة والحكمة، ومستوى روحي: متصل ومتحد بالعقل الفعّال)(5).
كما جَسّدَ ابن عربي بالإضافة اللغوية نظريةً في الفيض فأضاف إلى الضمير مثل (أنت حمدي، أنت طولي وعرضي، أنت سمائي وأرضي،..) وأضاف لفظاً إلى لفظ آخر (أنت حامل أمانتي وعهدي)، (أنت مجلى صفاتي، مُفصّل أسمائي، فاطر سمائي، موضع نظري، مجتمع جمعي، سرّ الماء، سرّ نجوم السماء، بحر الأوصاف..) وأضاف بالوصف حيث أضاف لفظاً إلى لفظٍ آخر مثل (الدّرة البيضاء والزبرجدة الخضراء) و(العُدْوة الدنيا) و(العُدْوة القصوى) وتصف الدكتورة سعاد الحكيم ظاهرة الإضافة عند ابن عربي، بأنها من أسس التقانة اللغوية، وترى أنَّ (الإضافة تُبرِز الجانب الحيوي من جوانب الوجود الكوني، وهو وجه العلائق والنسب، وتؤكد على التفاعل، فالإضافة تفاعل بين المعنيين المضافين، وليس مجرد اجتماع حقيقتين. بل هي تركيب حقيقتين تتآلفان، تتحدان، تتبادلان الصفات فتتلون حقيقة الصفة مثلاً بحقيقة الذات)(6)، فابن عربي يجعل من الإضافة، وهي ظاهرة لغويّة ونحويّة تجسيداً لمعنى الفيض نظريته الفلسفية الصوفية، فالفيض هو التجلي الإلهي.
رصدت الدكتورة سعاد الحكيم عند ابن عربي أساساً لغوياً آخر، هو تحوّل اللفظ المفرد، ومعناه (إنّ عالم ابن عربي ليس عالم رموز، إذ القضية عنده قضية أسماء قيلت لمعانٍ، لذلك لا ينفرد مُسمَّى باسم، بل الاسم يُطْلَق على كل من تحقّق فيه معنى الاسم)(7)، ويمكن التمثيل لهذا الأساس اللغوي من النص بكلمة (بحر) فقد وردت في سياقين هما (بحر الأوصاف) و(بحار الخلق)، فلفظ بحر ليس رمزاً ظاهراً لمعنى باطن، فالبحر بحر، لكنَّ اسم البحر تحوَّل إلى اسم أُطلِقَ على الأوصاف، لأنها كثيرة وعلى الخلق، لأنهم كثيرون، ومعنى كلمة بحر يتضمن الاتساع والكثرة.
أخذ ابن عربي من الطبيعة الكثير من المفردات (الماء)، و(نجوم السماء)، و(الريحان)، و(الأصداف)، و(بحر)، و(الأنعام)، و(الروضة)، و(الأزهار)، و(المغرب)، و(المشرق)، و(الأرض بزخرفها)، و(جناح)، و(رياح)، و(غمام)، و(فلك) و(حياض)، و(الرياض)،... الخ وأَودَعَها النص ليقول: إنَّ الطبيعة المادية تدخل في تكوين الإنسان الكامل، وإنَّ وحدة وجود تقوم بين الطبيعة والإنسان، لكنَّه لم يُبْق على مادية مفردات الطبيعة، بل نقل معظمها من عالم المادة إلى عالم المعنى، ليكون توحيدُه بين المادة والمعنى أحدَ تجلياتِ مذهب وحدة الوجود.
إنّ هذه المناجاة نموذج يؤكد أنّ النثر الصوفي هو أدب بقاء اللفظ والمعنى، وبقاء اللفظ ببقاء المعنى، وبقاء المعنى ببقاء اللفظ، بعد أن أمعن النقد القديم في تكريس ثنائية اللفظ والمعنى، ففي النثر الصوفي لم تعد ماهية اللفظ مجرد الصوت، ولا ماهية المعنى مجرد الفكر، ففي اللفظ كثير من عناصر المعنى، وفي المعنى الكثير من عناصر اللفظ واللفظ في سياق صوفي يتمتع بطاقة إيحائية غير محدودة تولد من الرمز والمجاز والإشارة، ما جعل المعنى يميل من البساطة إلى التعقيد، من المحدود إلى اللامحدود، فالمعنى بحسب الصوفي لم يعد مجرد المعنى المعجمي بل المعنى السياقي بنتيجة العلاقة بين اللغة والأفكار، والمعنى أيضاً هنا ليس المعنى الحرفي، وليس المعنى البعيد إنّه معنىً ثالث ابتكره ابن عربي، بعد أن حقق الاتحاد بين اللفظ والمعنى. (أنتَ ردائي، أنتَ سرُّ الماء وسرُّ نجوم السماء، أنتَ دررُ الأصداف، وبحر الأوصاف. أنتَ روضةُ الأزهار، وأزهار الروضات الخ).
فأبرز معاني المرآة في (أنتَ مرآتي) أنّه يمكن للإنسان بترقيّه نحو الكمال أن يُجسّد الكثير من معاني صفات الله وتجلياته وأبرز معاني الرداء في (أنتَ ردائي) أنَّ الإنسان (رداء) أي (تجسّد) لمعانٍ إلهيةٍ مبثوثة في الكون، وأبرز معاني (أنتَ سرّ الماء) أنّه إذا كان الماء هو الحياة والوجود فالإنسان هو سرّ الحياة والوجود؛ أي سببهما، وغايتهما في آنٍ معاً... وهكذا يمكن استشفاف الكثير من المعاني من (سر نجوم السماء)، و(درر الأصداف)، و(بحر الأوصاف) الخ.
لقد أولى ابن عربي فكرة الكمال اهتماماً مُميّزاً ليس بوصفها قضية معرفية وحسب، بل بوصفها فكرة أدبية ذات دور ريادي تُذكِّر بالمجتمع الفاضل الذي يحلم به الشعراء والمفكرون، وقد واكب ابن عربي الكمال كفكرة بمحاولة كمال أدبي، فكمال المضمون يُلزِمُ كمال الشكل، وكمال الفكر يُلزِمُ كمال التعبير عنه، وهذا ما صنعه ابن عربي إذ لم يُهمِلْ وسيلة في الخيال، البيان، والبديع، واللغة، بل استخدمها جميعاً بالقدر نفسه من الاهتمام ليصنع كماله الكتابي الخاص في نص المناجاة كما في سائر كتاباته، فضلاً عن ارتباط أصيل بين مفهوم الكمال ومفاهيم الجمال والجلال، فالإنسان الكامل في النص جميل وجليل لأنه يستمد كماله وجماله وجلاله من الله تعالى، فهو جميل وجليل في باطنه ومعناه أي في دوره (حمل الأمانة، والوفاء بالعهد، والقيام بالحق...) وجميل وجليل في شكله وظاهره (أنت مرآتي. ومجلى صفاتي. أنت الدرة البيضاء والزبرجدة الخضراء.. أنت سر الماء، سر نجوم السماء أنت جنة العارفين... غاية السالكين، وخشية العالمين، وعصمة اللائذين...الخ).
يُعنَى ابن عربي بالبيان والبديع عنايته بالفكر، فالكشف الصوفي عنده يناظر الخلق الفني، والإبداع الأدبي، لكنّ ابن عربي لا يستخدم ألوان البيان والبديع للغاية الفنية وحدها، بل لغاية فكرية؛ فالطباق، والتشبيه، والجناس أبرز الألوان الفنية في هذه المناجاة، ووُظِّفت جميعاً لترجمة مذهب وحدة الوجود.
الطباق في النص تعبير مزدوج عن جدل الأضداد في وجود الإنسان، وعن رغبة الصوفي بحل هذا الجدل، فهو ليس مُجرد زينة، بل صياغة لمعان متضادة، والتوحيد بينهما رغم تناقضها، والتأكيد أنّ بين معاني وحدة الوجود، وجود الشيء، ونقيضه، وأنّ تجاور هذه المتناقضات، هو تأكيد لسمة الجدل والصراع الملازمة لوجود الإنسان، وتأكيد لأنّ هذا الوجود ليس أحادي الهوية، ليس وجوداً للإلهي بمفرده، ولا وجوداً للإنساني بمفرده، هو وجودٌ لهما معاً على الرغم من أن وحدة الوجود عند ابن عربي لا تلغي الثنائية الحادة بين الله والإنسان، فالإنسان يُحقّق كماله بالمعرفة، ثم يخوض معراجه نحو سماء الله، والطباقات في النص عفوية واقعية تابعة للمعنى (الشاهد والمشهود)، و(اللاهوت والناسوت)، و(الدنيا والقصوى) و(أرضي وسمائي) و(فناء وبقاء)، و(خفيّ ومبين)، و(قبض وعطاء)، و(جمع وفرق)، و(ورود وصدور)، و(وصل وبين)، و(بطنت وظهرت)، و(قدّمت وأخّرت)، و(أعلنت وأسررت)، و(أمن وخشية).
لا يَقلُّ الجناس أهمية عن الطباق؛ فهو يُتمِّمُ مهمة الطباق في إنجاز المعنى، يُحقِّقُ الاتحاد الذي لم يحققه الطباق؛ لأنَّه يُمهِّد طريقاً للخلاص بإبرازه المعنى الحقيقي للوجود، وهو لقاء الله والإنسان فمعنى الجناس يتبع معنى الوجود، فضلاً عن دوره في تجميل الصياغة بخلق الإيقاع، ومنح أدبية النص وحدةً وتكافؤاً بين الشكل والمضمون (أدنى ودنيا)، و(أسمائي وسمائي)، و(سلطانك وسلطاني)، و(ملك وملكوت)، و(ختم وختام).
فالبديع إحدى القضايا النقدية الهامة في النثر الصوفي حيث لم يكن فيها مجرد لون تزييني، أو تعبير فني، بل كان ظاهرة لغوية تترجم أفكاراً فلسفية ومذهبية؛ فالطباق تضاد وصراع، والجناس توافق وانسجام، لقد تميَّز علم البديع في النتاج الصوفي بعفويته بسبب من طبيعة التجربة الصوفية ذاتها، والمتحولة بين طباق وجناس، وبسبب آخر من طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، والمتحولة بين وصل وفصل.
النص غزل إلهي بالإنسان، يُظهِرُ الوجه الآخر لعلاقة الحب بينه وبين الله، فبعد أن اعتدنا أناشيد الحب الصوفية المُهداة من الإنسان إلى الله، هذه أنشودة حب صوفية مُهداة من الله إلى الإنسان، وهو شطح جديد من حيث هو مُوجه من الله (تعالى) إلى الإنسان، وإن كان ذلك من بعد الإنسان الكامل والنبي (، فشطح ابن عربي يختلف عن الشطح الصوفي قبله في كونه مُوَجّهاً من الله إلى الإنسان، ففي الشطح الصوفي قبله كان الإنسان يُؤلِّه نفسه، وفي شطح ابن عربي الله يُؤلِّه الإنسان فيمنح للشطح شرعية وعلنيةً (عبدي بك ترديت، وعليك استويت، فسبحانك ما أعظمك سلطانك، سلطانك سلطاني فكيف لا يكون عظيماً، ويدك يدي فكيف لا يكون جسيماً)، (طوبى لسرٍّ وصل إليك وخَرَّ ساجداً بين يديك)، ودافع ابن عربي إلى نسبة هذا الشطح إلى الله هو الحب (كل محب مشتاق ولو كان موصولاً والحق يحبك، وكم يدعوك الحق إليه وأنت تفرّ منه، وهو قادر على ردّك إليه فإنّك منه لا منك)(
، في النثر الصوفي تطورت عاطفة الحب الإلهي تطوراً كبيراً عمّا كانت عليه في قصائد الغزل الصوفي؛ لقد أصبح فيضاً روحيّاً لا تحدُّه قافية، ولا يَسعُهُ وزنٌ، بل يمتد على سطور النص النثري، وبينها، ويتجاوزها إلى ما بين سطور الكون، وأوغلت هذه العاطفة في الرمزية، وفي الجرأة عن إعلان الاتحاد، عبر الشطح الصادر عن الصوفييّن، والشطح المنسوب إلى الله سبحانه في مناجاة (التشريف) فضلاً عن تطوّرٍ أبرز في قضية الحب الصوفي يبتكره ابن عربي؛ وهو تحويل الحب من حب من طرف واحد إلى حب متبادل يصدر أولاً عن الله سبحانه.
وبهذا الخطاب المُبتَكَر المُوجَّه من الله إلى النبي ( ومن بعده الإنسان يبدو أنّ تأثر ابن عربي بالنِّفَّري، واضح فهذه المناجاة تكاد تُناظِر مخاطبات النِّفَّري التي وردت على لسان الرب موجهةً إلى العبد، ويبدو أنّ هذه ليست المرة الأولى التي يتأثر فيها ابن عربي بالنِّفَّري، يؤكد سامي اليوسف أنّ (ابن عربي قرأ النِّفَّري وأُعجب به وذكره، في الفتوحات المكيّة، وحاول أن يُقلِّده مرةً على الأقل في كتاب الشاهد)(9)، فبعض الأفكار والأساليب التي وردت في (الشاهد) لها نظيرُها في بعض تفصيلات وحدة الشهود النِّفَّريّة يقول ابن عربي: (الحق بحر قعره الأزل، وساحله الأبد، فاركب سفينة ذاتك، ولا ترفع شراعاً، فإنّ الغرض طلب الساحل ولا ساحل، فاترك الموج يُسيّرُك فإنّي أخاف عليك من الشراع أن يوكلك الحق إلى تدبيرك، موج هذا البحر موج بلا زبد لأنه لا يعتمد بعضه على بعض)(10).
الخيال وسيلة الكشف الصوفي، وابن عربي يقرن بين الكشف الصوفي والخلق الإلهي، فالصور هي إبداعٌ صوفي لوحدة الوجود بين الله والإنسان والعالم، فالتشابيه (أنت مرآتي)، و(أنت ردائي)، و(أنت جنة العارفين)، و(أنت درر الأصداف)، و(بحر الأوصاف)، و(أنت روضة الأزهار، وأزهار الروضات)، تشابيه لا تحتفظ بطرفيها متباعدين بل تقربهما إلى درجة التوحيد من خلال اتحاد عنصري التشبيه (المشبه)، و(المشبه به)، فوظيفة الصورة هي الجمع بين العنصرين، وبالتعبير الصوفي تمّ التوحيد بينهما بهدف توحيد الذات الفردية بالعالم توحيد الجزء بالكل.
وهذه التشابيه حُذِفَت منها أداة التشبيه ليكون التشبيه بليغاً؛ فالإنسان لا يشبه مرآة الله بل هو المرآة ذاتها، وهو لا يشبه الجنة، والدُرَر، والبحر، والروضة، والأزهار، والأنعام...، إنّه هو الجنة، والدرر، والبحر، والروضة، والأزهار، والأنعام... وهذا شكل آخر من أشكال وحدة الوجود التي يتمحور حولها جهدُ ابن عربي، لغويّاً، وفكريّاً، وبيانيّاً، وبديعيّاً معاً، فللصورة دور هام في أداء المعنى، فهي بصيرة ورؤيا تخبر عن غيب ما اكتشفته، وهي هنا تخبر عن كون علاقة المشابهة هي علاقة مطابقة، فالتشبيه حقيقة.
الخيال قضية نقدية أبرزَها الصوفيون في نتاجهم، وأضافوا إلى البعد الفني فيها بُعداً معرفيّاً لا يقلُّ أهميةً، فالخيال عالم، ورؤية لهذا العالم تتجسد في نص، وزاوج الصوفيون بين البُعدين الفني والمعرفي، فأدخلوا الصوفية في الأدب لِتُبنى جمالية النص الصوفي على الرمز والمجاز، وليُحقّق الأدباء الصوفيون أبرز المقاييس النقدية الموضوعية للخيال من قوة ابتكار، وقوة تصوير، وليجعلوا من الخيال وسيلة لكشف المجهول.
ابن عربي ابتكر علاقة بين الخيال واللغة، أصبح الخيال مُكوِّناً لغويّاً يُجسِّدُ المعنى المجرد (أنتَ جنة العارفين، وريحان المقربين)، (أنتَ بحر الأوصاف)، (أنتَ سرّ الأنعام والأعراف).. الخ.
ينتصر ابن عربي للنثر المسجوع، والسجع في كتاباته ليس صفة بلاغية بل نوعاً أدبياً جديداً مُبتَكِراً تقاليدَ فنيّةً خاصة به، المقاطع القصيرة، والكلمات القليلة في الفواصل المسجوعة، ما يجعل النص صالحاً ـ ليس للحفظ فقط ـ كما أراد ابن عربي بل للغناء أيضاً.
بقلمي